الآيات القرآنية التي توحي بالتحريف
يقول البعض أن الكتاب المقدس الموجود بين أيادينا الآن هو كتاب محرف، استنادا إلى قول القرآن الكريم في:
+ سورة البقرة (75): "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم، وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون"
+ سورة النساء (46): "من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه"
+ سورة المائدة (13): "يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظَّـا مما ذُكِّروا به"
+ سورة المائدة (41): " … ومن الذين هادوا سماعون للكذب … يحرفون الكلم عن بعد مواضعه"
وللرد على ذلك نوضح ما يلي:
أولا: المقصود من هذه الآيات الكريمة.
ثانيا: شهادة الكتاب المقدس نفسه على عدم تحريفه.
ثالثا: شهادة القرآن الكريم على عدم تحريف الكتاب المقدس.
رابعا: شهادة المنطق على عدم تحريف الكتاب المقدس.
خامسا: شهادة علماء الإسلام الأفاضل على عدم تحريف الكتاب المقدس.
سادسا: شهادة علم الآثار والتاريخ عن عدم تحريف الكتاب المقدس.
الفصل الأول
مفهوم الآيات التي توحي بالتحريف
والسؤال الخطير هو: هل فعلا معنى هذه الآيات هو تحريف الكتاب المقدس؟؟ أم أن لها قصداً آخر؟
ونستطيع أن نضع صياغة أخرى للسؤال هكذا:
هل هذه الآيات القرآنية الكريمة تعني يقينا تحريف نصوص الكتاب المقدس؟ أم أنها تعني التحريف بمعنى آخر؟؟
لهذا يلزمنا أن نتفهم معنى كلمات هذه الآيات الكريمة، ثم نناقش المقصود من تهمة هذا التحريف.
أولا:
الآية الأولى التي تتحدث عن التحريف
+ سورة البقرة (75): "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم، وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون"
1ـ ما المقصود من هذه الآية الكريمة؟
يقول الإمام البيضاوي: "أفتطمعون أن يصدقونكم (أي اليهود) وقد كانت طائفة من أسلافهم يسمعون كلام الله أي التوراة ثم يحرفونه … أي يؤولونه ويفسرونه بما يشتهون … من بعد ما عقلوه أي فهموه بعقولهم ولم يبق فيه ريبة". من كلام الإمام البيضاوي يتضح جليا أن تهمة التحريف ليست في نصوص الكتاب المقدس بل في تفسيره وتأويله.
2ـ وهناك ملاحظة أخرى هي:
أن هذه الآية توضح أن فريقا واحدا من اليهود هو الذي يقوم بتحريف التفسير، وليس كل اليهود، وهذا يثبت أن التحريف ليس في نص الآيات وإلا لكان اليهود جميعُهم وليس فريقا منهم هم الذين يرتكبون هذا الجرم.
3ـ وهناك ملاحظة ثالثة: وهي في قول الآية الكريمة:
"يسمعون كلام الله ثم يحرفونه" معنى هذا أن كلام الله موجود غير محرف وهم لازالوا يسمعونه، بدليل قوله: أنهم بعد سماع كلمات الله يقول: ثم يحرفونه. (لاحظ حرف العطف "ثم"، واللغويون يعرفون جيدا أن معنى هذا الحرف "ثم" هو إفادة الترتيب في الأحداث، فيكون المعنى أنهم يسمعون كلام الله وبعد أن يسمعوه يحرفون معناه)
4ـ وملاحظة رابعة: في قول الآية الكريمة "من بعد ما عقلوه" يفيد أن هذا الفريق من اليهود يعقلون ويفهمون كلام الله نفسه ثم يقومون بتحريف معناه.
5ـ كما أن هناك ملاحظة أخيرة بخصوص قول الآية الكريمة "وهم يعلمون" ألا يفهم من هذه الكلمات أن هذا الفريق اليهودي يعلمون النص الصحيح لكلام الله ورغم ذلك يغيرون تفسيره؟؟
إذن فهذه الآية الكريمة لا تعني وقوع التحريف في نص كلمات الله، بل في تأويلها وتفسيرها بشهادة الإمام البيضاوي وغيره من المفسرين الأجلاء.
ثانيا:
الآية الثانية التي تتحدث عن التحريف
+ سورة النساء (46): "من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا،واسمع غير مسمع، وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم، ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا"
لنا في هذه الآية الكريمة عدة ملاحظات:
(1) في القول: "من الذين هادوا" يلاحظ أنه لم يقل من النصارى. وبهذه المناسبة أقول: أنه لا توجد آية واحدة في القرآن الكريم تنسب إلى النصارى تهمة تحريف الكتاب المقدس سواء في نصوصه أو في معانيه.
(2) في هذا القول نفسه ينسب التحريف ليس لكل اليهود بل يقول "من الذين هادوا" إذن فبقية اليهود متمسكون بالكتاب ولا يحرفونه.
(3) في قول هذه الآية: "يحرفون الكلم عن مواضعه" لاحظ قوله عن مواضعه! فماذا يعني ذلك؟
1ـ يقول الإمام البيضاوي في تفسير هذه الآية الكريمة: "من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم عن موضعه أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها بأن … يؤولونه على ما يشتهون فيميلونه عما أنزل الله فيه"
2ـ وقد سمى القرآن الكريم ذلك "ليا بألسنتهم" أي يغيرون نطق الألفاظ بحسب لغتهم العبرية وأعطي القرآن الكريم لذلك مثلا في نفس هذه الآية إذ قال: "(وراعنا) ليا بألسنتهم " فيغيرون منطوق اللفظ راعنا (أي أصغ إلينا) فينطقونه "رعْنا" أي "يا أرعن" بالعبرية وهي شتيمة. [كتاب تفسير القرآن للإمام عبد الله يوسف علي ص 200]
3ـ فالتحريف المقصود في هذه الآية ليس المقصود منه التحريف في كلام التوراة بل التحريف في كلام اليهود مع النبي محمد، بدليل قول الآية "طعنا في الدين".
(4) يقول الإمام الرازي: "لأن الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتى فيه تغيير الألفاظ" (كتاب ضحى الإسلام ص346و358 للأستاذ أحمد أمين) معنى هذا أن الإمام الرازي ينفي تهمة تحريف نصوص الكتاب المقدس.
(5) ويقول صحيح البخاري: "يحرفون الكلم عن موضعه أي يزيلونه وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله تعالى، ولكنهم يؤولونه على غير تأويله".
من هذا يتضح أن المقصود من آية سورة النساء ليس هو تحريف نصوص الكتاب المقدس بل تأويل المعنى عن طريق ليِّ اللسان ونطق كلمات الوحي بطريقة مغايرة بحسب ألفاظ لغتهم العبرية.
ثالثا:
الآية الثالثة التي تتحدث عن التحريف
+ سورة المائدة (13): " ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل … يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به"
ولنا أيضا على هذه الآية بعض التعليقات:
(1) يقول الإمام الرازي: "إن المراد بالتحريف هو إلقاء الشبهة الباطلة، وتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى المعنى الباطل، بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعل أهل البدع في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذهبهم، وهذا هو الأصح"
من هذا يتضح أن التحريف ليس في كلام الله بل في تأويله وتفسيره.
(2) الدليل على صحة ما يقوله الرازي هو أن صحيح البخاري ذكر نفس الشيء، علاوة على أن الآية (15) التي جاءت في نفس سورة المائدة بعد هذا الكلام تقول: "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب …" فالقرآن الكريم بهذا يفسر المقصود من التحريف وهو إخفاء أجزاء من الكتاب، وليس تغيير ألفاظ كلام الله.
(3) وقد جاء بكتاب الجلالين تفسيرا لهذه الآية وتوضيحا للموضوع الذي حدث فيه التحريف هكذا: "إن تحريف الكلم الذي في التوراة هو بخصوص محمد صلى الله عليه وسلم، وما يخفونه من الكتاب هو ما أمروا به في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم "
وهكذا نرى أن تفسير الجلالين لمعنى التحريف لا يخص تغيير الكتاب المقدس بل التهمة موجهة إلى إنكارهم لنبوة محمد واتباعه.
(4) وحقيقة الأمر أن الخلاف في موضوع التحريف بحسب هذه الآية هو قراءة نبوة موسى التي وردت في التوراة عن "النبي الآتي"، على أنها "النبي الأمي" أي محمد، فأنكر اليهود هذا التأويل وهذا التفسير، فورد بالآية "يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به". هذا هو موضوع الخلاف وهو لا يمس تغيير نصوص الكتاب المقدس.
رابعا:
الآية الرابعة التي تتحدث عن التحريف
+ سورة المائدة (41): " … ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم لم يأتوك يحرفون الكلم عن بعد مواضعه يقولون: إن أوتيتم هذا فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا"
(1) يقول الإمام عبد الله يوسف علي في تفسيره ص 260: " يهود كثيرون كانوا شغوفين أن يمسكوا على النبي الكذب فكانت آذانهم مفتوحة للحكايات التي تقال عنه حتى من الناس الذين لم يأتوا إليه"
(2) ويفسر عبارة "يحرفون الكلم من بعد مواضعه قائلا: ""إن اليهود لم يكونوا أمناء مع كتابهم إذ كانوا يحرفون معانيه"
(3) يقول الإمام الزمخشري: "روي أن شريفا من خيبر زنى بشريفة، وهما محصنان، وحكمهما الرجم بحسب التوراة. فرفضوا رجمهما لشرفهما، فبعثوا رهطا منهم … ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقالوا إن أمركم محمد بالجلد والتحميم فاقبلوا. وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا. وأرسلوا الزانيين معهم. فأمرهم النبي بالرجم. فأبوا أن يأخذوا به، فجعل بينه وبينهم حكما هو الحبر اليهودي ابن صوريا … فشهد بالرجم" وقالوا في ختام القصة أن النبي بعد شهادة الحبر اليهودي ابن صوريا أمر برجمهما. فرجموهما عند باب المسجد، لأقامة حد التوراة عليهما. وهكذا أجمع المفسرون أن أسباب نزول هذه الآية في سورة المائدة هو هذه القصة. فالتحريف المقصود هو في تفسير حكم الرجم بالجلد، وليس تغيير نصوص الكتاب المقدس.
(4) جاء في الجلالين "نزلت هذه الآية في اليهود إذ زنى منهم اثنان، فتحاكموا إلى النبي، فحكم عليهما بالرجم. فجيء بالتوراة، فوجد فيها الحكم بالرجم، فغضبوا"
(5) إن استشهاد النبي محمد بحكم التوراة هو دليل أكيد على اقتناعه بعدم تحريف الكتاب المقدس.
وهكذا أيها المستمعون الكرام نرى أن لفظ التحريف الذي ورد بالقرآن الكريم إنما يقصد به موقف فريق من اليهود من حادثتين شهيرتين هما:
1ـ تأويل اليهود لحكم الرجم بالجلد.
2ـ نفي قراءة "النبي الآتي" على أنها "النبي الأمي"
وأريد أن أوجه النظر إلى الملاحظة التالية:
علم البيان في لغة القرآن:
فمن أساليب البيان التي استخدمها القرآن الكريم: أسلوب التخصيص في مظهر التعميم، كقوله في سورة النساء (53) "أم يحسدون الناس على ما أتاهم من فضله" وقد فسر الإمامان الجلالان ذلك بالقول: يحسدون الناس صورة تعميمية يراد بها التخصيص وهو شخص النبي محمد إذ يحسدونه على النبوة وكثرة النساء"
هذا هو أسلوب التخصيص في مظهر التعميم الذي استخدمه القرآن الكريم في استخدام عبارة "يحرفون الكلم عن موضعه" فهذه صورة تعميمية يراد بها التخصيص أي:
1ـ تأويل اليهود لحكم الرجم بالجلد.
2ـ نفي قراءة "النبي الآتي" على أنها "النبي الأمي".
فماذا نقول للعامة الذين لا يلمون بأساليب التفسير القرآني بحسب علوم اللغة والبلاغة والبيان؟؟